أسهل ما يلغي الإنسان به شخصيته، ويجعل من نفسه ضعيفا، هو أن يقلد غيره تقليدا أعمى، فيسير في ركاب كل من يدمر عليه معيشته، وينتقص من دينه، فهناك فرق كبير بين القدوة الحسنة التي يجب علينا أن نقتدي بها في تقليد أعمال الصالحين التي تنفع الفرد والمجتمع، وبين التقليد الأعمى، الذي يضعف الشخصية، ويدمر أخلاق الفرد، وهوية المجتمع، وفي ذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم قائلا من هذا السلوك المتمثل في التقليد الأعمى: " لتتَّبعنَّ سَننَ من كانَ قبلَكم حذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ حتَّى لو دخلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتُموه. قالوا: اليَهودُ والنَّصارى؟ قالَ: فمَن.

فالتقليد الأعمى من الآفات المذمومة، لأنه يمثل التبعية البغيضة للإنسان الفاسد والمفسد، وتَقليدِ السَّفهاءِ، والاقتداءِ بالسَّاقطينَ من الرِّجالِ أو النِّساءِ.

التقليد الأعمى

فالتقليد الأعمى آفةٌ إذا عمل بها المجتمع، انشغل بالتفاهات، عن التَّخطيطِ للتَّقدُّمِ والبِناءِ، ولا تكونَ فريسةً سهلةً يصطادُها ويفرحُ بها الأعداءُ، وهي دليل على ضعف صاحبها، ووهن المجتمع، وهي أَمارةٌ على هزيمتِها وفُقدانِ هويَّتِها، وذوبانها في تَقليدِ هؤلاء السَّفهاءِ، والاقتداءِ بالسَّاقطينَ من الرِّجالِ أو النِّساءِ.

ولقد خلق الله المسلم عزيز النفس، له هويته، الخاصة، التي تعتمد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشَريعتُه التي فضَّلَه اللهُ بها على العالَمِين.

وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَريصًا على بَقاءِ هذا التَّميُّزِ والتَّفضيلِ، فنهى أن يكون المؤمن إمعة، مع الناس يقلدهم دون هدف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا".

ومِن ثَمَّ كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأمُرُ بمُخالَفةِ أهلِ الكِتابِ مِن اليَهودِ والنَّصارَى، ويُحذِّرُ مِن مُتابعتِهم.

وقد حذر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما يكونُ عليه حالُ المؤمن، من اتباع أخلاق الناس، دون هدف سواء كان اتباع نبيل أو خبيث، خاصة في الفترات التي تَأتي بعْدَ زَمانِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهي مُتابَعةُ أهلِ الأهواءِ والبِدعِ مِنَ اليهودِ والنَّصارى الَّذين بدَّلوا دِينَهم، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لِتتَّبعُنَّ سَننَ مَن قبلَكم».

فالنبي صلى الله عليه وسلم يقصد أن المسلمين سيتبعون طَريقةَ النَّصارى واليهودِ في أفعالِهم وحَياتِهم مُتابَعةً دَقيقةً شَديدةً، تَاركينَ سُنَّتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وصَوَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شِدَّةَ هذا الاتِّباعِ، فقال: «شِبرًا بِشبرٍ، وذِراعًا بذِراعٍ»، وهذا كِنايةٌ عَن شِدَّةِ الموافَقةِ لهم، واتِّباعِهم في عاداتِهم وتَقاليدِهم، حتَّى لو دخَلَ اليهودُ والنَّصارى جُحرَ ضَبٍّ لَدَخَلَه المسلمونَ وَراءَهم".

والضَّبُّ هو حَيوانٌ جُحرُه شَديدُ الظُّلْمةِ نَتِنُ الرِّيحِ، وهو مِن الزَّواحفِ يَكثُرُ في الصَّحارِي العَرَبيَّةِ، وَوجْهُ التَّخصيصِ بجُحرِ الضَّبِّ، هو شِدَّةُ ضِيقِه ورَداءَتُه، ومع ذلك فإنَّهم لاقتِفائهم آثارَهم واتِّباعِهم طَرائقَهم- لو دَخَلوا في مِثلِ هذا الضِّيقِ الرَّديءِ لَوافَقوهم!؟

 ومن المعلوم أن النصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين، مما يوافق دينهم، ويحبون أن يقوى ذلك ويكثر، ليقوى بذلك دينهم، ولئلا ينفر المسلمون عنهم وعن دينهم .

ومن دواعي التشبه بأفعال الكفار مجاورتهم أو مخالطتهم، حتى وصل الحال، ببعض جهال المسلمين في بلاد الهند إلى أن أحدهم صار يمشي زحفاً لزيارة قبر الولي، ويرجع على قفاه تقديراً وتعظيماً. وهذا بسبب مجاورة البوذيين هناك ومخالطتهم، حيث تأثروا بهم فقلدوهم في هذا الفعل ونحوه.

فمن الأدلة على ذلك في القرآن الكريم قول الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة: 120].

اقرأ أيضا:

لو شتمك أحد أو لعنك فأمامك ثلاث طرق.. تعرف عليها

الاتباع أم التقليد؟

وكما قلنا إن هناك فرق الاتباع، والتقليد، فالنبي صلى الله عليه وسلم، لم ينه عن اتباع الصالحين وأخذ الحكمة منهم، فقد دل على أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها، ولكنه نهى عن التقليد الأعمى في أن يتبع الإنسان من يضره ويفسد أخلاقه.
 فاللهُ تعالى كما فَطَرَ الإنسانَ على الاتِّباعِ، فقد جعلَ الاتِّباعَ الكاملَ لرسولِه صلى الله عليه وسلم، ولما جاءَ به، ومن فرَّطَ في هذا الاتِّباعِ فإنَّه ولا بُدَّ أن يعوّضَ هذا النَّقصَ في اتِّباعِ غيرِه، لذلك فقد أمر باتباعه صلى الله عليه وسلم واتباع الصالحين، حتى يفوت الإنسان على نفسه ان يقلد الفاسدين.

فكما أنَّ جُحرَ الضَّبِّ متَّعرِّجٌ مُظلمٌ، فهكذا هي سُبلُ المُجرمينَ مُخيفةٌ مُرعبةٌ، تُبعدُكَ عن صراطِ اللهِ المُستقيمِ، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[الأنعام:153].

فالتَّقليدِ الأعمى يقود صاحبه إلى القَذارةِ والحَرجِ، ويتركُ طريقَ النَّظافةِ والفَرجِ، كما قالَ ربعيُّ بن عامرٍ -رضيَ اللهُ عنه- لرُستم قائدِ الفُرسِ: "نحنُ قومٌ ابتعثنا اللهُ لنخرجَ العبادَ من عِبادةِ العبادِ إلى عِبادةِ اللهِ ربِّ العبادِ، ومن ضِيقِ الدُّنيا إلى سَعةِ الدُّنيا والآخرةِ".

لذلك حدد الله عز وجل في كتابه الكريم، القدوة الحسنة، واهل الاتباع، بقوله تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب:21].