أخبار

ما الحكمة من موت الفجأة لبعض الناس دون أية مقدمات؟ (الشعراوي يجيب)

ليس كل الكذب مرفوضًا.. تعرف على الكذب المحمود

من هم أهل الحوض الذين سيشربون من يد النبي الشريفة يوم القياية؟ وماذا كانوا يفعلون؟

كيف تعرف خروج الكلام من القلب دون غيره؟

"لا يكلف نفسًا إلا وسعها".. تقصير الأبناء متى لا يكون عقوقًا للوالدين؟

أترضاه لأمك؟.. ماذا نفعل مع شواذ الأخلاق وخوارج الفطرة؟

تعرضت للتحرش 4 مرات في طفولتي ومراهقتي وأكره نفسي وأفكر في الانتحار وقتل رضيعتي.. أرشدوني

العفو من شيم الصالحين.. كيف أتخلق به؟

أتذكر المعصية بعدما تبت منها.. كيف أحفظ خواطري؟

تعرف على منزلة النية وأثرها في قبول الأعمال

هل عصى آدم ربه قبل النبوة أم بعدها؟ (الشعراوي يجيب)

بقلم | فريق التحرير | الجمعة 22 يناير 2021 - 01:20 م

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى* فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى* إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى* فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى* فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى* ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه: 116- 122]


يقول العلامة الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي:

الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقصُّ علينا قصة آدم عليه السلام، لكن نلاحظ أنه سبحانه أعطانا مُجْمل القصة ومُوجزها في قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }[طه: 115] وأصلْ القصة وترتيبها الطبيعي أنه سبحانه يقول: خلقْتُ آدم بيدي وصوَّرته، وكذا وكذا، ثم أمرْتُ الملائكة بالسجود له ثم قلت له: كذا....

القصص القرآني


وعَرْض القصة بهذه الطريقة أسلوبٌ من أساليب التشويق يصنعه الآن المؤلفون والكُتَّاب في قصصهم، فيعطوننا في بداية القصة لقطة لنهايتها؛ لإثارة الرغبة في تتبُّع أحداثها، ثم يعود فيعرض لك القصة من بدايتها تفصيلاً، إذن: هذا لوْنٌ من ألوان الإثارة والتشويق والتنبيه.

ومن ذلك أسلوب القرآن في قصة أهل الكهف، حيث ذكر القصة مُوجَزة فقال:{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً }[الكهف: 9ـ12].

ثم أخذ في عَرْضها تفصيلاً: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ }[الكهف: 13]. وقد جاء هذا الأسلوب كثيراً في قَصَص القرآن، ففي قصة لوط ـ عليه السلام ـ يبدأ بنهاية القصة وما حاق بهم من العذاب: { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } [القمر: 33ـ34].

ثم يعود إلى تفصيل الأحداث: { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } [القمر: 36ـ37].

ومن أبرز هذه المواضع قوله تعالى في قصة موسى وفرعون: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ }
[الأعراف: 103] أي: من بعد موكب الرسالات إلى فرعون وملَئِه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين، هذا مُجمل القصة، ثم يأخذ في قَصِّ الأحداث بالتفصيل: { وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }[الأعراف: 104].

سجود الملائكة لآدم


وهكذا أسلوب القرآن في قصة آدم عليه السلام، يعطينا مُجْمل القصة، ثم يُفصِّلها: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُوۤاْ } [طه: 116] يعني: إذكر إذ قُلْنا للملائكة { ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } [البقرة: 34].

وقبل أن نخوضَ في قصة أبينا آدم ـ عليه السلام ـ يجب أن نشير إلى أنها تكررتْ كثيراً في القرآن، لكن هذا التكرار مقصود لحكمة، ولا يعني إعادة الأحداث، بل هي لقطاتٌ لجوانب مختلفة من الحدَث الواحد تتجمع في النهاية لتعطيك القصة الكاملة من جميع زواياها.

كما أن الهدف من قَصَص القرآن تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيمرُّ بكثير من الأحداث والشدائد، سيحتاج في كل منها إلى تثبيت، وهذا الغرض لا يتأتَّى إذا سردنا القصة مرة واحدة، كما في قصة يوسف عليه السلام مثلاً.قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُوۤاْ } [طه: 116] البعض يعترض يقول: كيف تسجد الملائكة لبشر؟ نعم، هم سجدوا لآدم، لكن ما سجدوا من عند أنفسهم، بل بأمر الله لهم، فالمسألة ليستْ سجوداً لآدم، بقدر ما هي إطاعة لأمر الله. ولقائل هذا الكلام: أأنت مَلِكيٌّ أكثر من الملك؟ يعني: أأنت ربانيّ أكثر من الربّ؟

وما معنى السجود؟ السجود معناه: الخضوع، كما جاء في قوله تعالى: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } [يوسف: 100] أي: سجودَ تعظيم وخضوع، لا سجودَ عبادة.

وآدم ـ عليه السلام ـ هو خليفة الله في الأرض، لكنه ليس الوحيد عليها، فعلى الأرض مخلوقات كثيرة منها المحسّ، كالشمس والقمر والنجوم والهواء والماء والأرض والجبال، وكُلّ ما فيه مصلحة لهذا الخليفة، ومنها ما هو خفيّ كالملائكة التي تدير خفى هذا الكون، فمنهم الحفظة والكتبة، ومنهم المكلَّفون بالريح وبالمطر.. إلخ من الأمور التي تخدم الخَلْق. فلا بُدَّ ـ إذن ـ أن يخضع الجميع لهذا المخدوم الآتي.

وقد يحلو للبعض أن يقول: لقد ظَلَمنا آدمُ حين عصى ربه، فأنزلنا من الجنة إلى الأرض. نقول: يجب أن نفهم عن الله تعالى، فالحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يخلق آدم للجنة التي هي دار الخُلْد، إنما خلقه ليكون خليفة له في الأرض، كما قال سبحانه: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً }[البقرة: 30].

فأوّل بلاغ من الله عن آدم أنه خالقه للأرض لا للجنة. والجنة، وإن كانت تُطلَق على دار الخُلْد ودار النعيم الأُخْروي فهي تُطلَق أيضاً على حدائق وبساتين الدنيا، كما جاء في قول الحق سبحانه:

{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ }[القلم: 17]. وقوله: { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ } [الكهف: 32].

إذن: تُطلَق الجنة على شيء في الدنيا يضمُّ كل ما تطلبه النفس وسمَّوْها الجنة؛ لأنها تستر بشجرها وكثافتها مَنْ يدخل فيها، أو جنة لأنها تكفي الإنسان ولا تُحوجه إلى شيء غيرها.

تدريب آدم 


فلا تظلموا آدم بأنه أخرجكم من الجنة؛ لأنه لم يكُنْ في جنة الخُلْد، إنما في مكان أعدَّه الله له، وأراد أنْ يُعطيه في هذا المكان درساً، ويُدرِّبه على القيام بمهمته في الحياة وخلافته في الأرض.

أرأيتَ ما نفعله الآن من إقامة معسكرات للتدريب في شتى مجالات الحياة، وفيها نتكفّل بمعيشة المتدرب وإقامته ورعايته. إنها أماكن مُعدَّة للتدريب على المهام المختلفة: رياضية، أو علمية، أو عسكرية.. الخ.

هكذا كانت جنة آدم مكاناً لتدريبه قبل أنْ يباشر مهمته كخليفة لله في الأرض، فأدخله الله في هذه التجربة العملية التطبيقية، وأعطاه فيها نموذجاً للتكليف بالأمر والنهي، وحذَّره من عدوه الذي سيتربص به وبذريته من بعده، وكشف له بعض أساليبه في الإضلال والإغواء.وهذه هي خلاصة منهج الله في الأرض، وما من رسول إلا وجاء بمثل هذا المنهج: أمر، ونهي، وتكليف، وتحذير من الشيطان ووسوسته حتى يُخرِجنا عن أمر الله ونَهْيه.

وبعد هذا (الكورس) التدريبي في الجنة عَلِم آدم بالتطبيق العملي أن الشيطان عدوه، وأنه سيُغريه ويخدعه، ثم بعد هذه التجربة أنزله الله ليباشر مهمته في الأرض، فيكون من عدوه على ذِكْر وحذر.

والبعض يقف طويلاً عند مسألة عصيان آدم: كيف يعصي الله وهو نبي؟ ويذكرون قوله تعالى: { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه: 121].

نقول: ما دام أن آدم ـ عليه السلام ـ هو خليفة الله في أرضه، ومنه أَنْسَالُ الناس جميعاً إلى أنْ تقوم الساعة، ومن نَسله الأنبياء وغير الأنبياء، من نسله الرسل والمرسل إليهم. إذن: فهو بذاته يمثل الخَلْق الآتي كله بجميع أنواعه المعصومين وغير المعصومين.

كما أن آدم ـ عليه السلام ـ مرَّ بهذه التجربة قبل أن يُنبأ، ومَرَّ بها بعد أن نُبىء، بدليل قوله تعالى: { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [طه: 121ـ122].

فكان الاجتباء والعصمة بعد التجريب، ثم لما أُهبِط آدم وعدوه إلى الأرض خاطبه ربه: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 38].

وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياة آدم عليه السلام، ومثَّل آدم الدَّوْريْن: دَوْر العصمة والنبوة بعدما اجتباه ربه، ودَوْر البشر العادي غير المعصوم والمعرَّض للنسيان وللمخالفة كأيِّ إنسان من أناس الأرض.

ينبغي ـ إذن ـ أن نفهم أن آدم خُلِق للأرض وعمارتها، وقد هيَّأها الله لآدم وذريته من بعده، وأعدَّها بكُلِّ مقوِّمات الحياة ومُقوِّمات بقاء النوع، فمَنْ أراد ترف الحياة فليُعمل عقله في هذه المقوّمات وليستنبط منها ما يريد.

لقد ذكرنا أن في الكون مُلكاً وملكوتاً: الملْك هو الظاهر الذي نراه ونشاهده، والملكوت ما خفى عنّا وراء هذا الملْك، ومن الملكوت أشياء تؤدي مهمتها في حياتنا دون أنْ نراها، فمثلاً ظاهرة الجاذبية الأرضية التي تتدخل في أمور كثيرة في حياتنا، كانت في حجاب الملكوت لا نراها ولا نعرف عنها شيئاً، ثم لما اهتدتْ إليها العقول و اكتشفتْها عرفنا أن هناك ما يسمى بالجاذبية.

ومن الملكوت الملائكة الموكّلون، كما قال تعالى: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [الرعد: 11]. ومنهم الكَتَبة: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18].

فلما خلق الله آدم، وخلق الملائكة الموكلين بمصالحه في الأرض أمرهم بالسجود له؛ لأنهم سيكونون في خدمته، فالسجود طاعة لأمر الله، وخضوع للخليفة الذي سيعمر الأرض.

اقرأ أيضا:

ما الحكمة من موت الفجأة لبعض الناس دون أية مقدمات؟ (الشعراوي يجيب)

رفض إبليس السجود


وقوله تعالى: { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ } [طه: 116] وفي آية أخرى: { إِلاَّ إِبْلِيسَ ٱسْتَكْبَرَ } [ص: 74].

وقد أوضح الحق سبحانه سبب رَفْض إبليس للسجود لآدم بقوله: { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ص: 75] أي: لا سبب لامتناعك إلا الاستكبار على السجود، أو تكون من العالين. أي: الملائكة الذين لم يشملهم الأمر بالسجود، فكأن الأمر كان للملائكة خاصة هم الموكّلون بخدمة آدم، أمّا العالون فهم الملائكة المهيّمون، ولا علاقة لهم بآدم، وربما لا يدرُون به.

ومن الأساليب التي أثارتْ جَدَلاً حول بلاغة القرآن لدى المستشرقون قوله تعالى: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ص: 75] وقوله في موضع آخر: { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12] فأيُّ التعبيريْن بليغ؟ وإنْ كان أحدهما بليغاً فالآخر غير بليغ.

وهذا كله ناتج عن قصور في فَهْم لغة القرآن، وعدم وجود الملَكة العربية عند هؤلاء، فهناك فَرْق بين أنك تريد أن تسجدَ ويأتي مَنْ يقول لك: لا تسجد، وبين أنْ يُقنعك شخص بألاَّ تسجد. فقوله: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ص: 75] كنت تريد السجود وواحد منعك، وقوله: { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12] يعني: أمرك ألاَّ تسجد، وأقنعك وأنت اقتنعتَ.

ومن المسائل التي أثيرتْ حول هذه القصة: أكان إبليس من الملائكة فشمله الأمر بالسجود؟ وكيف يكون من الملائكة وهم لا يعصُون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون؟ وإذا لم يكُنْ مَلَكاً فماذا أدخله في الأمر؟

ولتوضيح هذه المسألة نقول: خلق الله الثَّقليْن: الجن والإنس، وجعلهم مختارين في كثير من الأمور، ومقهورين في بعض الأمور، ليثبت طلاقة قدرته تعالى في خَلْقه، فإنْ كنتَ مختاراً في أمور التكليف وفي استطاعتك أنْ تطيع أو أنْ تعصي، فليس من اختيارك أنْ تكون صحيحاً أو مريضاً، طويلاً أو قصيراً، فقيراً أو غنياً، ليس في اختيارك أنْ تحيا أو تموت.

والحق ـ تبارك وتعالى ـ لا يُكلِّفك بافعل كذا ولا تفعل كذا، إلا إذا خلقك صالحاً للفعل ولعدم الفعل، هذا في أمور التكليف وما عداه أمور قَهْرية لا اختيارَ لك فيها هي القدريات.

لذلك نقول للذين أَلِفُوا التمرد وتعوَّدوا الخروج على أحكام الله في التكليفات: لماذا لا تتَمردوا أيضاً على القدريات ما دُمْتم قد أَلِفْتم المخالفة؟ إذن: أنت مقهور وعَبْد رَغماً عنك.

لذلك، إذا كان المختار طائعاً يلزم نفسه بمنهج ربه، بل ويتنازل عن اختياره لاختيار الله، فمنزلته عند الله كبيرة، وهي أفضل من المَلَك، لأن المَلك يطيع وهو مرغم. ومن هنا يأتي الفرْق بين عباد وعبيد، فالكل في القهر عبيد، لكن العباد هم الذين تركوا اختيارهم لاختيار ربهم.

ومن هنا نقول: إن إبليس من الجن، وليس من الملائكة؛ لأنه أُمِر فامتنع فعُوقِب، وإنْ كان الأمر في الأصل للملائكة.

وقد حسم القرآن هذه القضية حين قال: { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [الكهف: 50] وهذا نصٌّ صريح لا جدالَ حوله. فإنْ قُلْتَ: فلماذا شمله الأمر بالسجود، وهو ليس مَلَكاً؟

نقول: لأن إبليس قبل هذا الأمر كان طائعاً، وقد شهد عملية خَلْق آدم، وكان يُدْعَي " طاووس الملائكة " لأنه ألزم نفسه في الأمور الاختيارية ففاق بذلك الملائكة، وصار يزهو عليهم ويجلس في مجلسهم، فلما جاء الأمر للملائكة بالسجود لآدم شمله الأمر ولزمه من ناحيتين:

الأولى: إنْ كان أعلى منهم منزلةً وهو طاووسهم الذي ألزم نفسه الطاعة رغم اختياره فهو أَوْلَى بطاعة الأمر منهم، ولماذا يعصي هذا الأمر بالذات؟

الأخرى: إنْ كان أقلّ منهم، فالأمر للأعلى لا بُدَّ أنْ يشمل الأدنى، كما لو أمرتَ الوزراء مثلاً بالقيام لرئيس الجمهورية، وبينهم وكلاء ومديرون، فطبيعيٌّ أنْ يشملهم الامر.ثم يقول الحق: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)}
قوله تعالى: {وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117] كلمة الزوج لا تعني اثنين كما يظن البعض، الزوج فرد واحد معه مثله، فليس صحيحاً أن نقول: توأم إنما توأمان، فكل منهما توأم للآخر؛ لذلك يقول تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49].
مَلْحَظ آخر في قوله تعالى: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة} [طه: 117] الخطاب لآدم وزوجه يُحذِّرهما من إغواء إبليس وكَيْده، ثم يقول {فتشقى} [طه: 117] بصيغة الإفراد، ولم يقُل: فتشقيَا. لماذا؟ لأن مسئولية الكَدْح والحركة للرجل أمَّا المرأة فهي السكن المريح المنشِّط لصاحب الحركة، على خلاف ما نرى في مجتمعنا من الحرص على عمل المرأة بحجة المساعدة في تبعات الحياة.

الإطعام والستر 


{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} فقد أعددْتُ لك الجنة، وجعلتُ لك فيها كل ما تحتاجه، وأبَحْتُ لك كل نعيمها ونهيتُك عن شيء واحد منها، ولك علينا {أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى} [طه: 118] فلن تجوع فيها؛ لأن فيها كل الثمرات {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35]. ونلحظ هنا أن الله تعالى تكفَّل لهما بشيء ظاهر يُلبِّي غريزة ظاهرة هي اللباس والتستُّر، وغريزة باطنة هي غريزة الطعام. ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا} .تفسير الآية رقم (119):

{وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} (تظمأ) يعني: تعطش، و(تضحى): أي: لا تتعرض لحرارة الشمس اللافحة، فتكفّل لهما ربهما أيضاً بغريزة باطنة هي العطش، وغريزة ظاهرة هي ألاَّ تلفحك حرارة الشمس. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)} نلحظ أن الحق سبحانه اختار لعمل الشيطان اسماً يناسب الإغراء بالشيء، وهي كلمة(الوَسْوَسة) هي في الأصل صوت الحليّ أي: الذهب الذي تتحلَّى به النساء، كما نقول: نقيق الضفادع، وصهيل الخيل، وخُوار البقر، ونهيق الحمير، وثغاء الشاة، وخرير الماء، وحفيف الشجر.
وكذلك الوسوسة اسم لصوت الحليّ الذي يجذب الأسماع، ويُغرِي بالتطلع إليه، وكأن الحق سبحانه يُحذِّرنا أن الشيطان سيدخل لنا من طريق الإغراء والتزيين.
فما الذي وَسوس به إلى آدم؟ {قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [طه: 120]. ونعجب لإبليس: ما دُمْت تعرف شجرة الخُلْد والملْك الذي لا يبلى، لماذا لم تأكل أنت منها وتحوز هذه الميزة؟ .تفسير الآية رقم (121):

{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)}أي: بعد أن أكلا من هذه الشجرة ظهرتْ لهما سوءآتهما، والسَّوْأة هي العورة أي: المكان الذي يستحي الإنسان أن ينكشف منه، والمراد القُبُل والدُّبُر في الرجل والمرأة. ولكل من القُبل والدُّبر مهمة، وبهما يتخلص الجسم من الفضلات، الماء من ناحية الكُلى والحالب والمثانة عن طريق القُبل، وبقايا وفضلات الطعام الناتجة عن حركة الهَضْم وعملية الأَيْض، وهذه تخرج عن طريق الدُّبُر.
لكن، متى أحسَّ آدم وزوجه بسوءاتهما، أبعد الأكل عموماً من شجر الجنة، أم بعد الأكل من هذه الشجرة بالذات؟
الحق تبارك وتعالى رتَّب ظهور العورة على الأكل من الشجرة التي نهاهما عنها {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} [طه: 121] فقبْل الأكل من هذه الشجرة لم يعرفا عورتيهما، ولم يعرفا عملية الإخراج هذه؛ لأن الغذاء كان طاهيه ربُّه، فيعطي القدرة والحياة دون أن يخلف في الجسم أيَّ فضلات.
لكن، لما خالفوا وأكلوا من الشجرة بدأ الطعام يختمر وتحدث له عملية الهضم التي نعرفها، فكانت المرة الأولى التي يلاحظ فيها آدم وزوجه مسألة الفضلات، ويلتفتان إلى عورتيهما: ما هذا الذي يخرج منها؟
وهنا مسألة رمزية ينبغي الالتفات إليها، فحين ترى عورة في المجتمع فاعلم أن منهجاً من مناهج الله قد عُطل.
إذن: لم يعرف آدم وزوجه فضلات الطعام وما ينتج عنه من ريح وأشياء مُنفَّرة قذرة إلا بعد المخالفة، وهنا تحيَّرا، ماذا يفعلان؟ ولم يكن أمامهما إلا ورق الشجر {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} [طه: 121].
أي: أخذا يلصقان الورق على عورتيهما لسترها هكذا بالفطرة، وإلا ما الذي جعل هاتين الفتحتين عورة دون غيرهما من فتحات الجسم كالأنف والفم مثلاً؟
قالوا: لأن فَتْحتيْ القُبُل والدُّبُر يخرج منهما شيء قذر كريه يحرص المرء على سَتْره، ومن العجيب أن الإنسان وهو حيوان ناطق فضَّله الله، وحين يأكل يأكل باختيار، أمّا الحيوان فيأكل بغريزته، ومع ذلك يتجاوز الإنسان الحد في مأكله ومشربه، فيأكل أنواعاً مختلفة، ويأكل أكثر من حاجته ويأكل بعدما شبع، على خلاف الحيوان المحكوم بالغريزة.
ولذلك ترى رائحة الفضلات في الإنسان قذرة مُنفّرة، ولا فائدة منها في شيء، أما فضلات الحيوان فلا تكاد تشمُّ لها رائحة، ويمكن الاستفادة منها فيجعلونها وقوداً أو سماداً طبيعياً. وبعد ذلك نتهم الحيوان ونقول: إنه بهيم.. إلخ.
وقوله تعالى: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] أي: فيما قبل النبوة، وفي مرحلة التدريب، والإنسان في هذه المرحلة عُرْضة لأنْ يصيب، ولأنْ يخطئ، فإنْ أخطأ في هذه المرحلة لا تضربه بل تُصوِّب له الخطأ. كالتلميذ في فترة الدراسة، إنْ أخطأ صوَّب له المعلم، أما في الامتحان فيحاسبه.
ومعنى: {فغوى} [طه: 121] يعني: لم يُصِبْ الحقيقة، كما يقولون لمن تاه في الصحراء غاوٍ أي: تائه. ثم تأتي المرحلة الأخرى: مرحلة العِصْمة.
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)}
إذن: مثَّل آدم دَوْر الإنسان العادي الذي يطيع ويعصي، ويسمع كلام الشيطان، لكن ربه شرعَ له التوبة كما قال سبحانه: {فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37].
إذن: عصى آدم وهو إنسان عادي وليس وهو نبي كما يقول البعض.
فقوله: {ثُمَّ اجتباه} [طه: 122] هذه بداية لمرحلة النبوة في حياة آدم عليه السلام، و(ثُمَّ) تعني الترتيب مع التراخي {اجتباه} [طه: 122] اصطفاه ربه.
ولم يقل الحق سبحانه: ثم اجتباه الله، إنما {اجتباه رَبُّهُ} [طه: 122] لأن الرب المتولي للتربية والرعاية، ومن تمام التربية الإعداد للمهمة، ومن ضمن إعداد آدم لمهمته أنْ يمرَّ بهذه التجربة، وهذا التدريب في الجنة.



الكلمات المفتاحية

الشيخ محمد متولي الشعراوي وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى هل عصى آدم ربه قبل النبوة أم بعدها؟

موضوعات ذات صلة

الأكثر قراءة

amrkhaled

amrkhaled ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى* فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخ